العاصمة

قيصــر الأدب يكتب هيليــن طـــروادة (Helen of Troy)

0

طــارق رضـــوان
أحد الشواغل العميقة لعصر النهضة، العلاقة بين الاسم والهوية. فليس للقب «طروادة» ضرورة. فاستحضار «هيلين» يعني استحضار هيلين أسبرطة/طروادة. لقد كان هناك مضاهاة أُحادية بين الدال والمدلول عليه. فعلى الرغم من أن الشعار مأمون، فإن معنى ذلك الشعار خلافي. لكن في الوقت الحاضر هيلين طروادة تشير تلقائيًّا إلى الجمال الفائق، وليس لها أي تداعيات سلبية للمعنى. وعند كثير من كتَّاب أوائل العصر الحديث حمل اسم «هيلين» بجلاءٍ معنى الجمال. إن أنشودة فاوستوس هي أشهر استجابة لجمال هيلين.
قيل عن هيلين إنها ابنة الإله «زيوس» من ملكة سبارتا “ليدا” .وتروي الأسطورة أن «زيوس» أغرى «ليدا» في صورة بجعة وأنجب منها هيلين، على الجانب الآخر، لم يكن باريس إلا ابن ملك طروادة، الذي قرر التخلي عنه بعدما أخبره عراف بأنه سيولد له ابن سيكون سببًا في تدمير مدينته. مع مرور السنوات، وبينما تَربَّى في منزل غير منزله، وأصبح راعيًا للغنم، تروي الأسطورة أن ثلاثة آلهة هن: “هيرا” و”أفروديت” و”أثينا”، نشب بينهن خلاف حول من منهن الأجمل، وقررن الاحتكام لأول غريب يمر.
كان هذا الغريب باريس. تسرد الحكاية أن الربات الثلاثة قدَّمن عرضًا للشاب، وكان عرض أفروديت أن تهب له أجمل نساء الأرض، ليختار عرضها ويرفض السلطة التي قدمتها هيرا والمجد الذي عرضته أثينا. تحقيقًا لوعدها، أعادت أفروديت باريس إلى عائلته في طروادة، ليخطو أولى خطواته تجاه التعرف إلى أجمل امرأة على وجه الأرض.
في ذلك الوقت، كانت هيلين زوجة “منيلاوس”، ملك سبارتا، الذي كانت قصة زواجه منها فريدة من نوعها، إذ تنافس الخُطَّاب على الظفر بالفاتنة هيلين. لكن منيلاوس نجح في الفوز بموافقتها، ولأن المنافسة كانت عنيفة، أقسم بقية الرجال على مساندة زوج هيلين المستقبلي.
لقاء هيلين وباريس كان في حفل زفاف، حضر إليه مدعوًّا، لكنه لم يغادر وحيدًا، بل معه هيلين، زوجة الملك، ليعودا إلى طروادة، ليجمع زوجها جيشًا ضخمًا من الإغريق لمطاردتها، لتندلع حرب طروادة بعد رفض أهلها إعادة هيلين إلى زوجها. وترى «الإلياذة» أن هيلين السبب الرئيسي في اندلاع حرب طروادة.
وجد هيرودوت سجلات تعود إلى توقيت قصة طروادة، تحمل دلائل أن هيلين عاشت في مصر 10 أعوام، وكانت رمزًا ثقافيًّا مبجلًا.
يقول هيرودوت”:لقد سألت الكهنة عن قصة هيلين، وقالوا لي إن باريس، حين كان في طريقه عائدًا من سبارتا إلى طروادة، ضربه طقس سيئ في مكان ما ببحر إيجة. قاد سفينته إلى مصر، ومع انتهاء العاصفة السيئة وجد نفسه على الشاطئ”
تعزو رواية أخرى سبب وجود هيلين في مصر، إلى الصراع بين الآلهة، وتحديدًا هيرا وأفروديت. اختيار باريس لأفروديت كأجمل إلهة بين الإلهات الثلاثة، دفع هيرا إلى الانتقام، فخلقت امرأة شبيهة لهيلين لتبحر إلى طروادة، فيما حُمِلت هيلين الحقيقة إلى مصر سالمة.
لم يكن الشعراء اليونانيون متيقنين أبدًا بشأن هيلين: فهي من الممكن أن تمثل البراءة الإنسانية أو الإثم البشري. إن قصة هيلين يمكن اختصارها إلى إحدى سرديتين: إما قصة فرار مع الحبيب أو قصة اختطاف. هيلين في الأولى، زانية، مذنبة، شخص مستحق للوم؛ بينما في الثانية، هي ضحية، بريئة، شخص يستحق الدفاع عنه. لذا من الأيسر اعتبار هيلين ألعوبة في يد الآلهة أو ضحية لشهوة باريس. في «الإلياذة»
كان مبرر باريس لزيارة اليونان هو وعد فينوس له بأنه «ينبغي أن يأخذ زوجة من هنا.» طوعًا تقول هيلين، التي هي بالفعل واقعة في حب باريس: «أنا راغبةٌ، إن كنتَ حقًّا ترغب أيضًا، أن تأخذني من هنا زوجةً لك.» يطرح باريس المانع الاصطلاحي وهو أنها بالفعل متزوجة، إلا أن هيلين تقول غير مكترثة بهذا الأمر: «إن لم تأخذني زوجةً لك، فسأموت بسبب حبك». يُقَدِّر باريس الآن المشكلات العملية التي من المتوقع أن تقف عائقًا أمام خروج هيلين من القصر الملكي، إلا أنها تُحدِّد خطط الهروب، مطلِعةً باريس على ما يجب عليه أن يفعل فيما يتعلق بالترتيبات البحرية. فالدفاع عن صنيع هيلين وعواقبه هو في حد ذاته أمر واضح الصعوبة (يُستثنى من ذلك المحاورون الطامحون أو العابثون أمثال جورجياس، وإيسقراط، وأوفيد).
فبسخريته اللاذعة في كتاب ” فن الهوى”، يُقَدِّم أوفيد مرشحًا جديدًا لإلقاء اللوم عليه: ” مينلاوس الأحمق” الذي أعان على زنا زوجته:
ويلك يا مينلاوس! أأحمق أنت؟
لِمَ تُبحِر وحدك وتخلف زوجك،
في رفقة غريب تحت سقف واحد؟ أتأتمن الصقور على الحمائم،
أو ذئاب جبل أن تحرس حظيرة أغنام مكتظة؟
لا ترمِ هيلين بالإثم، ولا تلمْ من زنا بها؛
فما أتيا إلا ما يمكن أن يأتيه من واجه نفس الموقف.
«أنت» من هيأت لهما مناخ الزنا إذ أفسحت لهما زمانه ومكانه.
ماذا تراها كانت فاعلة، إلا أن تنفُذ من باب أنت فتحته؟ …
أما أنا فأبرئ هيلين من كل إثم. اللوم يقع على عاتق زوجها.
وعلى الرغم من أن جوزيف من إكستر يحدد شهوة باريس على أنها هي السبب، ففينوس هي التي تساند غريزته الشهوانية وهي التي تيسر وصوله إلى هيلين. في ” الحرب على طروادة” لكوينتوس من سميرنا يكبح أجاممنون غضب مينلاوس، موضحًا أن ” هيلين ليست هي الملومة، كما تظن، بل باريس الذي نسي زيوس، إله الضيف والمُضيف، ونسي ما يدين به لمائدتك». يتكرر في النصوص التركيز على جريمة باريس ضد كرم الضيافة، ولو بطريقة غير مباشرة.
ولكن فى “الأوديسة” عندما تقول هيلين إن أفروديت «جلبتني إلى طروادة … وجعلتني أهجر ابنتي، ومخدع زوجيتي، وزوجٍ لم ينقصه شيء» ، فهيلين في هذا السياق فاعلة وكذلك سلبية؛ فهي التي تأتي فعل الهجر ولكنها «جُعِلَت» و«جُلِبَت» فهي مجبولةٌ على ذلك
يطرح الكُتَّاب اللاحقون يوربيديس، وهيرودوت، وإيسقراط مفهومًا آخر، وهو ما سيدعوه كاتب مسيحي في القرن الرابع الميلادي القديس أوغسطينوس «الخطيئة السعيدة». من وجهة نظر هيرودوت وإيسقراط أنه كان هناك مكتسب إيجابي من وراء عقْد الدمار: وهو إقامة يونان موحدة، وتقوية المقدرة المدنية والبحرية. بيْد أن أكثر التعبيرات روعةً عن هذا الموقف يأتي من قِبَل مينلاوس نفسه في مسرحية «أندروماك» ليوربيديس:
… ابتلاء هيلين
جاء عبر مشيئة إلهية، وليس محض اختيارها؛
ومن خلاله وهبت اليونان فوائد جليلة.
قبل ذلك الحين لم تكن الأسلحة والنزال معروفَيْن لهم؛
أبرزت الحرب صفات الرجولة لديهم، وأيضًا،
ألَّفت بين صنوف مختلفة من اليونانيين؛ إن التواصل معلم عظيم
لم يصنع زنا هيلين غير المرغوب تحالفًا عسكريًّا وتطورات تقنية فحسب بل واتحادًا اجتماعيًّا وثقافيًّا. لربما كان مينلاوس هو الديوث في الأدب الذي يرى مزلته الشخصية بهذا القدر من الإيجابية من الناحية السياسية.
يجعل يوربيديس من هيلين إلهة. في مسرحية «الطرواديات» يتيح لها أن تدافع عن نفسها؛ من وجهة نظر معظم النقاد هي تدين نفسها أثناء قيامها بذلك؛ فهي تلوم هيكوبا على إنجابها لباريس، وتلوم بريام على أنه لم يقتله، وهكذا فهي تتهم الإلهات، وباريس، ومينلاوس؛ اختصارًا، هي تلوم «الجميع» عدا نفسها.
يُعيد فيلاكوت صياغة حجة هيلين كما يلي: «أنت تحاول أن تلصق اللوم على كل هذه المعاناة، عليَّ أنا. أنت من اصطنعت الحرب، وأنا كنت ذريعة فعلك، أما باريس فكان ذريعة فعلي، وأبواه كانا ذريعة باريس؛ عند من سنتوقف؟»
ألف جورجياس كتابه «في مديح هيلين» في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد. ومن المحتمل أنه يسبق زمنيًّا مسرحية يوربيديس «الطرواديات»، التي قُدِّمت عام ٤١٥ قبل الميلاد. يرسخ جورجياس أولًا لتميُّز هيلين؛ فهي ابنة إله، وجميلة جمالًا ربانيًّا، ووحد جمالها حُكَّام اليونان على محبتها.
يعرض جورجياس أربعة أسباب محتملة «لمغادرة» هيلين إلى طروادة: (١) الضرورة الإلهية. (٢) الإجبار. (٣) إقناع بياني. (٤) الحب. ويفرغ سريعًا من أول سببين. فما كان لهيلين أن تجابه الآلهة، فهم وإن كانوا مسئولين، فهيلين ليست ملومة. وإن كان استُولِي عليها عنوةً، فإن خاطفها هو الذي يستحق التهمة والعقوبة. في هذه الحالة، لا تكون هيلين غير ملومة فحسب، بل إنها تكون ضحية، وتصبح شخصًا «عانى».ومن ثم فهي تستحق الشفقة.
وعن السبب الثالث يتناول جورجياس أنواعًا مختلفةً من الكلام: كالشعر، والتَّعْزِيم، وقول الزور، والإقناع. ويقارن الكلام بالمواد المخدرة: «بعض الكلام يجلب الحزن، وبعضه يجلب السرور، وبعضه يجلب الخوف، وبعضه يمنح المستمعين ثقةً، وبعضه يخدر العقل ويفتنه بحُجةٍ فاسدةٍ»
الانطباق على حالة هيلين مدسوس في طيات ما سبق: إنه المحاجِج، باريس، هو الجاني، وليس المحاجَج، هيلين، لأنها مضطرة، فعل بها كفعل المُخدِّر.
في عرضه للسبب الرابع، وهو الحب، يستفيض جورجياس في شرحه. فيُعرِّف الحب بأنه صنيع المشاهدة على الدماغ. ولذلك فإن هيلين — من ناحية انجذابها إلى باريس — عانت «علةً بشريةً وقصورًا في العقل»، وهو «ما ينبغي ألا يُنعَى عليه كسلوك شائن بل أن يُعتَبَر ابتلاءً». وكذا، يُستنتج أنه لا يوجد مثال من الأمثلة الأربعة التي ساقها يمكن للمرء من خلاله أن «يعتبر اللوم الواقع على هيلين عادلًا».
إن دفاع جورجياس مُتحايِلٌ تحايلًا بيانيًّا من نواحٍ متعددةٍ؛ فهو يحصر الحالة في تصورات أربعة، وبفراغه منهم يشجعنا على أن نقتنع بأن كل التصورات قد فُرِغ منها. ويفرض علينا تعريفاتٍ، مثل ذلك التعريف للحب، ومن ثَمَّ يقيم الحجة تبعًا لبنوده المحدودة. فهو مؤمن بأنه يمكن للمرء أن يُغفر له أي شيء، ويتغاضى عن أي شيء، بسبب جماله. وما يَصْدُق على سفسطائي صِقِلِّي يَصْدُق على ملِكة أسبرطية.
أما إيسقراط فيكتب مستندًا على عزيمة تفوق أستاذه. وهو ينقد أساليب جورجياس في المحاورة ويشير إلى أن كتابه «في مديح هيلين» هو دفاع، وليس مدحًا. ويوضح بجلاء نسقه الإطرائي: «إنه تزكية … من أجل الإشادة بأولئك الذين يمتازون في أي خصلة نبيلة»
يبدأ إيسقراط، شأنه في ذلك شأن جورجياس، بالتركيز على المكانة السامية لهيلين. فهي كانت المرأة الوحيدة التي كان والدها زيوس؛ فوهبها زيوس الجمال، وهي ميزة أعظم من قوة هرقل. يُنْظَر إلى حرب طروادة من قِبَل إيسقراط نظرةً إيجابيةً. ولمَّا كان ذيوع الصيت يأتي كنتيجة للقتال، فالتحلِّي بالجمال الذي يسبب القتال هو شكل (أنثوي) لذيوع الصيت الذي يحرزه الأبطال العسكريون في الحرب.
ويبتدئ مجددًا بذكر قسَم خطاب هيلين، زاعمًا أنه عبر هذا وحدت هيلين اليونان. يُعاد ههنا تحديد (واستباق) تاريخ الفترة الزمنية التي تقول جدلية يوربيديس وهيرودوت بأن التحالف قد تم فيها؛ فلم يعد نتيجةً لاختطاف هيلين بل هو أثرٌ ناجمٌ عن جمال هيلين. ويُثني على اختيار باريس لفينوس (وقبوله لهيلين) ويعتبره إنكارًا للذات (فهدايا أثينا وهيرا «لم تكن لتدوم لأطول من سنوات عمره»، بينما الزواج من ابنة زيوس هو إرث يمكنه أن يمنحه لأبنائه.)
أضف على ذلك أنه من الجلي أن الجمال هو ميزة ثمينة إذا كانت الإلهات خصماتٍ في مسابقة للجمال. وهكذا يتكرر الثناء على مقدرة هيلين على التوحيد بين الفرقاء، هذه المرة بالطريقة المتوقعة باعتبارها السبب الذي من خلاله «دفنت الولايات اليونانية خلافاتها.»
إن أراد المرء أن يدافع عن هيلين، فإن أبسط وأسرع الطرق ليفعل ذلك هو أن يقدمها في صورة إلهة؛ لا «ابنة» إله، فذلك ما فعله الكُتاب بدءًا من هوميروس ومن تلوه
“باريس” حسب رواية جوزيف يمتلك شخصية مزهوة بنفسها وساذجة في الوقت نفسه. يوجه جوزيف الآن خطابه إلى باريس، قائلًا له إنه ليس بحاجة للقلق بشأن الحاجة لاستخدام معسول الكلام؛ لأن لديه ما يغنيه عن الإغراء. بالإضافة إلى أن الظروف سانحة للاختطاف: المدينة خاوية، والريح في الاتجاه الصحيح. والأهم من ذلك أن هيلين «سهلة الانقياد». إلا أنه عندما يقرر باريس أن يخطف هيلين، يستنكر جوزيف عليه انتهاكه لضيافة مينلاوس، وزواجه، والقواعد الأخلاقية العامة. لقد شجع الراوي بطل قصته وألجمه معًا، مثلما فعلت هيلين ذاتها.

اكتشاف المزيد من بوابة العاصمة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading